"درب الأجداد.. حين تعيد عراقة اليمن رسم خرائط المجد":
في مشهدٍ مهيب احتضنته أرض الإمارات العربية المتحدة، وتحت راية "مهرجان الرحالة العالمي" بدبي، تجلت صورة حية من صور الأنفة والشموخ العربي. لم تكن تلك اللحظات مجرد تجمعٍ للمغامرين، بل كانت انبعاثاً تاريخياً لـ "رحلة الآباء والأجداد" في أنقى صورها، حيث أطلّ الرحالة اليمانيون ليعيدوا رسم خارطة المجد بوقع أقدام إبلهم وصبر عزيمتهم.
أحد عشر شهراً من الصمود والاعتزاز:
بينما يهرع العالم خلف سرعة الآلات، اختار هؤلاء الأبطال لغة الصبر والجلد التي طالما عُرف بها إنسان اليمن السعيد. انطلقوا من قلب "شبوة" باتجاه حضرموت الأبية، قاطعين مسافات تجاوزت 5000 كيلومتر على مدار أحد عشر شهراً من الترحال المتواصل. لم تكن الرمال تحت أقدامهم مجرد درب، بل كانت صفحات من التاريخ يستحضرون فيها كيف كان الأجداد يطوعون الديار ويفتحون الآفاق بصدق العزيمة.
رفقة الأصيل.. حكاية وفاء وفطرة:
في هذا الارتحال، لم تكن "عطية" و"خيرة" و"حليمة" (الإبل الثلاث) مجرد وسائل نقل، بل كنّ شريكات في ملحمة الصمود. تجسدت في الرحلة تلك الفطرة العجيبة والوفاء النادر الذي يربط البدوي اليماني بأصائله؛ حيث تفهم الإبل نبض صاحبها وتستمد من ثباته قوة لا تلين. وبرغم تقلبات المناخ وغدر العواصف ومخاطر الفيافي، ظل اليقين ثابتاً، والهمة تناطح السحاب.
فجر الانطلاق: من "مرموم" إلى قلب العروبة:
لحظة وداعٍ تفيض بالمشاعر، حيث انطلقت القافلة من منطقة "مرموم" بدبي متجهةً بوقار صوب العاصمة أبوظبي. بزيّهم التقليدي الأصيل (المعوز والشال)، يمشون بخطىً واثقة تعكس هيبة الإنسان اليماني. وعلى ظهور الإبل، رفرقت أعلام دولة الإمارات العربية المتحدة والجمهورية اليمنية جنباً إلى جنب، في عناقٍ رمزي يجسد وحدة المصير وروابط الإخاء المتينة بين الشعوب العربية. وبينما كانت القافلة تبتعد في الأفق، تعالت دعوات المودعين بقلوبٍ صادقة: "استودعناكم الله.. والله ييسر دربكم".
طواف المجد.. مسيرة الشوق إلى مكة:
إنها رحلة "النية الصادقة" التي لا تعرف الحدود، حيث يمضي هؤلاء الرجال في طوافٍ عربي مهيب يرسخ أواصر القربى. بدأت من اليمن ومرت بعُمان والإمارات، وتستمر الخطة لتشمل قطر، والكويت، والعراق، ثم الاتجاه صوب حواضر العروبة في سوريا ولبنان، ومنها إلى أكناف الأردن، وصولاً إلى الغاية الأسمى في المملكة العربية السعودية لأداء مناسك الحج. مسيرة تعيد للأذهان قوافل النور اليمانية القديمة، مؤكدة أن هذا الجيل لا يزال يحفظ العهود ويسير على ذات الدرب العظيم.
خاتمة الفخر:
لقد قدم هؤلاء الرحالة درساً في "أصالة الترحال"، وأثبتوا أن الإنسان اليماني هو الحارس الأمين لإرث أجداده. لم يكن ترحالهم مجرد انتقالٍ بين الجغرافيا، بل كان جسراً يربط بين ماضٍ مجيد وحاضرٍ يفخر به الأبناء.
حقّ للتاريخ أن يدوّن، وللأجيال أن تفتخر؛ فهذا هو اليمن.. وهؤلاء هم رجاله.

